کد مطلب:211463 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:118

مجلس 03
فلما كان الیوم الثالث بكرت الی مولای فستؤذن لی فدخلت

فاذن لی بالجلوس فجلست فقال علیه السلام:

الحمد لله الذی اصطفانا و لم یصطف علینا

اصطفانا بعلمه و ایدنا بحلمه من شذعنا فانار مأواه، و من تفیأ بظل دوحتنا فالجنة مثواه، قد شرحت لك یا مفضل خلق الانسان و ما دبر به و تنقله فی احواله و ما فیه من الاعتبار و شرحت لك امر الحیوان و انا ابتدی ء الآن بذكر السماء و الشمس و القمر و النجوم و الفلك و اللیل و النهار و الحر و البرد و الریاح و الجواهر الاربعة الارض و الماء و الهواء و النار و المطر و الصخر و الجبال و الطین و الحجارة و النخل و الشجر و ما فی ذلك من الادلة و العبر فكر فی لون السماء و ما فیه من صواب التدبیر فان هذا اللون اشد الالوان موافقة و تقویة للبصر حتی ان من صفات الاطباء لمن اصابه شی ء اضر ببصره ادمان النظر الی الخضرة و ما قرب منها الی السواد و قد وصف الحذاق منهم لمن كل بصره الاطلاع فی اجانة خضراء مملوءة ماءا فانظر كیف جعل الله جل و تعالی ادیم السماء بهذا اللون الاخضر الی السواد لیمسك الابصار المتقلبة علیه فلا ینكأ فیها بطول مباشرتها فصار هذا الذی ادركه الناس بالفكر و الرویة و التجارب یوجد مفروغا منه فی الخلقة حكمة بالغة لیعتبر بها المعتبرون و یفكر فیها الملحدون قاتلهم الله أنی یؤفكون.

فكر یا مفضل فی طلوع الشمس و غروبها لاقامة دولتی النهار و اللیل فلولا طلوعها لبطل امر العالم كله فلم یكن الناس یسعون فی معایشهم و یتصرفون فی امورهم و الدنیا مظنمة علیهم و لم یكونوا یتهنون بالعیش مع فقدهم لذة النور و روحه و الارب فی طلوعها ظاهر مستغنی بظهوره عن الاطناب فی ذكره و الزیادة فی شرحه بل تأمل المنفعة فی عروبها فلولا غروبها لم یكن للناس هدوء و لا قرار مع عظم حاجتهم الی الهدوء و الراحة لسكون ابدانهم و جموم حواسهم و انبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام و تنفیذ الغذاء الی الاعضاء ثم كان الحرص یستحملهم من مداومة العمل و مطاولته علی ما یعظم نكایته فی ابدانهم فان كثیرا



[ صفحه 342]



من الناس لولا جثوم هذا اللیل بظلمته علیهم لم یكن لهم هدو و لا قرار حرصا علی الكسب و الجمع و الادخار ثم كانت الارض تستحمی بدوام الشمس بضیائها و یحمی كل ما علیها من حیوان و نبات فقدرها الله بحكمته و تدبیره تطلع وقتا و تغرب وقتا بمنزلة سراج یرفع لاهل البیت تارة لیقضوا حوائجهم ثم یغیب عنهم مثل ذلك لیهدؤا و یقروا فصار النور و الظلمة مع تضادهما منقادین متظاهرین علی مافیه صلاح العالم و قوامه ثم فكر بعد هذا فی ارتفاع الشمس و انحطاطها لاقامة هذه الازمنة الاربعة من السنة و ما فی ذلك من التدبیر و المصلحة ففی الشتاء تعود الحرارة فی الشجر و النبات فیتولد فیهما مواد الثمار و یتكثف الهواء فینشأ منه السحاب و المطر و تشتد ابدان الحیوان و تقوی، و فی الربیع تتحرك و تظهر المواد المتولدة فی الشتاء فیطلع النبات و تنور الاشجار و یهیج الحیوان للفساد و فی الصیف یحتدم الهواء فتنضج الثمار و تتحلل فضول الابدان و یجف وجه الارض فتهیأ للبناء و الاعمال و فی الخریف یصفو الهواء و ترتفع الامراض و تصح الابدان و یمتد اللیل فیمكن فیه بعض الاعمال لطوله و یطیب الهواء فیه الی مصالح اخری لو تقصیت لذكرها لطال فیها الكلام، فكر الآن فی تنقل الشمس فی البروج الاثنی عشر لاقامة دور السنة و ما فی ذلك من التدبیر فهو الدور الذی تصح به الازمنة الاربعة من السنة الشتاء و الربیع و الصیف و الخریف و تستوفیها علی التمام و فی هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات و الثمار و تنتهی الی غایاتهم ثم تعود فیستأنف النشو و النمو الا تری ان السنة مقدار مسیر الشمس من الحمل الی الحمل فبالسنة و اخواتها یكال الزمان من لدن خلق الله تعالی العالم كل وقت و عصر من غابر الایام و بها یحسب التاس الاعمار و الاوقات الموقتة للدیون و الاجارات و المعاملات و غیر ذلك من امورهم و بمسیر الشمس تكمل السنة و یقوم حساب الزمان علی الصحة انظر الی شروقها علی العالم كیف دبر ان یكون فانها لو كانت تبزغ فی موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها و منفعتها الی كثیر من الجهات لان الجبال و الجدران كانت تحجبها عنها فجعلت تطلع فی اول النهار من المشرق فتشرق علی ما قابلها من وجه المغرب ثم لا تزال تدور و تغشی جهة بعد جهة حتی تنتهی الی المغرب فتشرق علی ما استتر عنها فی اول النهار فلا یبقی موضع من المواضع الا اخذ بقسطه من المنفعة منها و الارب التی قدرت له ولو تخلفت مقدار عام او بعض عام كیف كان یكون حالهم بل كیف كان یكون لهم مع ذلك بقاء افلا تری كیف كان یكون للناس هذه الامور الجلیلة التی لم یكن عندهم فیها حیلة فصارت تجری علی



[ صفحه 343]



مجاریها لا تفتل و لا تتخلف عن مواقیتها لصلاح العالم و ما فیه بقاؤه استدل بالقمر ففیه دلالة جلیلة تستعملها العامة فی معرفة الشهور و لا یقوم علیه حساب السنة لان دوره لا یستوفی الازمنة الاربعة و نشو الثمار و تصرمها و لذلك صارت شهور القمر و سنوه تتخلف عن شهور الشمس و سنیها و صار الشهر من شهور القمر ینتقل فیكون مرة بالشتاء و مرة بالصیف، فكر فی انارته فی ظلمة اللیل و الارب فی ذلك فانه مع الحاجة الی الظلمة لهدؤ الحیوان و برد الهواء علی النبات لم یكن صلاح فی ان یكون اللیل ظلمة داجیة لا ضیاء فیها فلا یمكن فیه شی ء من العمل لانه ربما احتاج الناس الی العمل باللیل لضیق الوقت علیهم فی بعض الاعمال فی النهار و لشدة الحر و افراطه فیعمل فی ضوء القمر اعمالا شتی كحرث الارض و ضرب اللبن و قطع الخشب و ما اشبه ذلك فجعل ضوء القمر معونة للناس علی معایشهم اذا احتاجوا الی ذلك و انسا للسائرین و جعل طلوعه فی بعض اللیل دون بعض و نقص مع ذلك عن نور الشمس و ضیائها لكیلا ینبسط الناس فی العمل انبساطهم بالنهار و یمتنعوا من الهدوء و القرار فیهلكهم ذلك و فی تصرف القمر خاصة فی مهله و محاقه و زیادته و نقصانه و كسوفه من التنبیه علی قدرة الله تعالی خالقه المصرف له هذا التصریف لصلاح العالم ما یعتبر به المعتبرون.

فكر یا مفضل فی النجوم و اختلاف مسیرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك و لا تسیر الا مجتمعة و بعضها مطلقة تنتقل فی البروج و تفترق فی مسیرها فكل واحد منها یسیر سیرین مختلفین احدهما عام مع الفلك نحو المغرب و الاخر خاص لنفسه نحو المشرق كالنملة التی تدور علی الرحی فالرحی تدور ذات الیمین و النملة تدور ذات الشمال و النملة فی ذلك تتحرك حركتین مختلفتین احداهما بنفسها فتتوجه امامها و الاخری مستكرهة مع الرحی تجذبها الی خلفها فاسأل الزاعمین ان النجوم صارت علی ما هی علیه بالاهمال من غیر عمد و لا صانع لها ما منعها ان تكون كلها راتبة او تكون كلها منتقله فان الاهمال معنی واحد فكیف صار یأتی بحركتین مختلفتین علی وزن و تقدیر ففی هذا بیان أن مسیر الفریقین علی ما یسیر ان علیه بعمد و تدبیر و حكمة و تقدیر و لیس باهمال كما یزعم المطلعة فان قال قائل و لم صار بعض النجوم راتبا و بعضها منتقلا قلنا انها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التی یستدل بها من تنقل المنتقلة و مسیرها فی كل برج من البروج كما یستدل بها علی اشیاء مما یحدث فی العالم بتنقل الشمس و النجوم فی منازلها ولو كانت كلها منتقلة



[ صفحه 344]



لم یكن لمسیرها منازل تعرف و لا رسم یوقف علیه لانه انما یوقف علیه بمسیر المنتقلة منها بتنقلها فی البروج الراتبة كما یستدل علی سیر السائر علی الارض بالمنازل التی یجتاز علیها ولو كان تنقلها بحال واحدة لاختلط نظامها و بطلت المآرب فیها و لساغ لقائل ان یقول ان كینونتها علی حال واحدة توجب علیها الاهمال من الجهة التی وصفنا ففی اختلاف سیرها و تصرفها و ما فی ذلك من المآرب و المصلحة ابین دلیل علی العمد و التدبیر فیها. فكر فی هذه النجوم التی تظهر فی بعض السنة و تحتجب فی بعضها كمثل الثریا و الجوزاء و الشعریین و سهیل فانها لو كانت باسرها تظهر فی وقت واحد لم یكن لواحد فبها علی حیاله دلالات یعرفها الناس و یهتدون بها لبعض امورهم كمعرفتهم الآن بما یكون من طلوع الثور و الجوزاء اذا طلعت و احتجابها اذا احتجبت فصار ظهور كل واحد و احتجابه فی وقت غیر الوقت الاخر لینتفع الناس بما یدل علیه كل واحد منها علی حدته و ما جعلت الثریا و اشباهها تظهر حینا و تحتجب حینا الا لضرب من المصلحة و كذلك جعلت بنات نعش ظاهرة لا تغیب لضرب آخر من المصلحة فانها بمنزلة الاعلام التی یهتدی بها الناس فی البر و البحر للطرق المجهولة و كذلك انها لا تغیب و لا تتواری فهم ینظرون الیها متی ارادوا ان یهتدوا بها الی حیث شاؤا و صار الامر ان جمیعا علی اختلافهما موجهین نحو الارب و المصلحة و فیهما مآرب اخری علامات و دلالات علی اوقات كثیرة من الاعمال كالزراعة و الغراس و السفر فی البر و البحر و اشیاء مما یحدث فی الازمنة من الامطار و الریاح و الحر و البرد و بها یهتدی السائرون فی ظلمة اللیل لقطع القفار الموحشة و اللجج الهائلة مع ما فی ترددها فی كبد السماء مقبلة و مدبرة و مشرقة و مغربة من العبر فانها تسیر أسرع السیر و احثه ارایت لو كانت الشمس و القمر و النجوم بالقرب مناحتی یتبین لنا سرعة سیرها بكنه ما هی علیه الم تكن تسخطف الابصار بوهجها و شعاعها كالذی یحدث یحدث احیانا من البروق اذا توالت و اضطرمت فی الجو؟ و كذلك ایضا لوان اناسا كانوا فی قبة مكللة بمصابیح تدور حولهم دورانا حثیثا لحارت ابصارهم حتی یخروا لوجوههم، فانظر كیف قدر ان یكون مسیرها فی البعد البعید لكیلا تضر فی الابصار و تنكأ فیها و باسرع السرعة لكیلا تتخلف عن مقدار الحاجة فی مسیرها و جعل فیها جزءا یسیرا من الضوء لیسد من الاضواء اذا لم یكن قمر و یمكن فیه الحركه اذا حدثت ضرورة كما قد یحدث الحادث علی المرء فیحتاج الی التجافی فی جوف اللیل فان لم یكن شی ء من الضوء یهتدی به لم یستطع ان یبرح مكانه. فتأمل اللطف



[ صفحه 345]



و الحكمة فی هذا التقدیر حین جعل للظلمة دولة و مدة لحاجة الیها و جعل خلالها شی ء من الضوء للمآرب التی وصفنا. فكر فی هذا الفلك بشمسه و قمره و نجومه و بروجه تدور علی العالم هذا الدوران الدائم بهذا التقدیر و الوزن لما فی اختلاف اللیل و النهار و هذه الازمان الاربعة المتوالیة من التنبیه علی الارض و ما علیها من اصناف الحیوان و النبات من ضروب المصلحة كالذی بینت و شخصت لك آنفا و هل یخفی علی ذی لب ان هذا تقدیر مقدر و صواب و حكمة من مقدر حكیم فان قال قائل ان هذا شی ء اتفق ان یكون هكذا فما منعه ان یقول مثل هذا فی دولاب یراه یدور و یسقی حدیقة فیها شجر و بنات فیری كل شی ء من آلاته مقدار بعضه یلقی بعضا علی مافیه صلاح تلك الحدیقة و ما فیها و بم كان یثبت هذا القول لو قاله و ما نری الناس كانوا قائلین له لوسمعوه منه افینكر ان یقول فی دولاب خشب مصنوع بحیلة بقصیرة لمصلحة قطعة من الارض انه كان بلا صانع و مقدر و یقدر ان یقول فی هذا الدولاب الاعظم المخلوق بحكمة تقصر عنها اذهان البشر لصلاح جمیع الارض و ما علیها انه شی ء اتفق ان یكون بلاصنعة و لا تقدیر؟ لو اعتل هذا الفلك كما تعتل الالات التی تتخذ للصناعات و غیرها ای شی ء كان عند الناس من الحیلة فی اصلاحه؟

فكر یا مفضل فی مقادیر النهار و اللیل كیف وقعت علی ما فیه صلاح هذا الخلق فصار منتهی كل واحد منهما اذا امتد الی خمس عشرة ساعة لا یجاوز ذلك افرأیت لوكان النهار یكون مقداره مائة ساعة او مأتی ساعة الم یكن فی ذلك بوار كل ما فی الارض من حیوان و نبات، اما الحیوان فكان لا یهدأ و لا یقر طول هذه المدة و لا البهائم كانت تمسك عن الرعی لو دام لها ضوء النهار و لا الانسان كان یفتر عن العمل و الحركة و كان ذلك ینهكها اجمع و یؤدیها الی التلف و اما النبات فكان یطول علیه حر النهار و وهج الشمس حتی یجف و یحترق و كذلك اللیل لو امتد مقدار هذه المدة كان یعوق اصناف الحیوان عن الحركة و التصرف فی طلب المعاش حتی تموت جوعا و تخمد الحرارة الطبیعیة عن النبات حتی یعفن و یفسد كالذی تراه یحدث علی النبات اذا كان فی موضع لا تطلع علیه الشمس. اعتبر بهذا الحر و البرد كیف یتعاوران العالم و یتصرفان هذا التصرف فی الزیادة و النقصان و الاعتدال لاقامة هذه الازمنة الاربعة من السنة و ما فیهما من المصالح ثم هما بعد دباغ الابدان التی علیهما بقاؤها و فیهما صلاحها فانه لولا الحر و البرد و تداولهما الابدان لفسدت و اخوت و أنتكثت، فكر فی دخول احدهما علی الاخر بهذا التدریج و الترسل فانك تری احدهما ینقص شئیا



[ صفحه 346]



بعد شی ء و الاخر یزید مثل ذلك حتی ینتهی كل واحد منهما منتهاه فی الزیادة و النقصان ولو كان دخول احدهما علی الاخر مفاجاة لاضر ذلك بالابدان و اسقمها كما ان احدكم لو خرج من حمام حار الی موضع البرودة لضره ذلك و اسقم بدنه فلم یجعل الله عزوجل هذا الترسل فی الحر و البرد الا للسلامة من ضرر المفاجأة و لم جری الامر علی ما فیه السلامة من ضرر المفاجأة لولا التدبیر فی ذلك فان زغم زاعم ان هذا الترسل فی دخول الحر و البرد انما یكون لابطاء مسیر الشمس فی ارتفاعها و انحطاطها سئل عن العلة فی ابطاء مسیر الشمس فی ارتفاعها و انحطاطها فان اعتل فی الابطاء ببعد ما بین المشرقین سئل عن العلة فی ذلك فلا تزال هذا المسألة ترقی معه الی حیث رقی من هذا القول حتی استقر علی العمد و التدبیر لولا الحر لما كانت الثمار الجاسیة المرة تنضج فتلین و تعذب حتی یتفكه بها رطبة و یابسة و لولا البرد لما كان الزرع یفرخ هكذا و یربع الریع الكثیر الذی یتسع للقوت و ما یرد فی الارض للبذر افلا تری ما فی الحر و البرد من عظیم الغناء و المنفعة و كلاهما مع غنائه و المنفعة فیه یؤلم الابدان و یمضها و فی ذلك عبرة لمن فكر و دلالة علی انه من تدبیر الحكیم فی مصلحة العالم و ما فیه.

و انبهك یا مفضل علی الریح و ما فیها الست تری ركودها اذا ركدت كیف یحدث الكرب الذی یكاد ان یأتی علی النفوس و یمرض الاصحاء و ینهك المرضی و یفسد الثمار و یعفن البقول و یعقب الوباء فی الابدان و الآفة فی الغلات ففی هذا بیان. ان هبوب الریح من تدبیر الحكیم فی صلاح الخلق و انبئك عن الهواء بخلة اخری فان الصوت اثر یؤثره اصطكاك الاجسام فی الهواء و الهواء یؤدیه الی المسامع و الناس یتكلمون فی حوائجهم و معاملاتهم طول نهارهم و بعض لیلهم فلو كان اثر هذا الكلام یبقی فی الهواء كما یبقی الكتاب فی القرطاس لامتلاء العالم منه فكان یكربهم و یفدحهم و كانوا یحتاجون فی تجدیدة و الاستبدال به الی اكثر مما یحتاج الیه فی تجدید القراطیس لان ما یلفظ من الكلام اكثر مما یكتب فجعل الخلاق الحكیم جل قدسه هذا الهواء قرطاسا خفیا یحمل الكلام ریثما یبلغ العالم حاجتهم ثم یمحی فیعود جدیدا نقیا و یحمل ما حمل ابدا بلا انقطاع و حسبك بهذا النسیم المسمی هواء عبرة و ما فیه من المصالح فانه حیاة هذه الابدان و الممسك لها من داخل بما یستنشق منه من خارج بما یباشر من روحه و فیه تطرد هذه الاصوات فیؤدی البعد البعید و هو الحامل لهذه الارواح ینقلها من موضع الی موضع الا تری كیف تأتیك الرائحة من حیث تهب الریح فكذلك الصوت و هو القابل لهذا الحر و البرد اللذین یتعاقبان علی العالم



[ صفحه 347]



لصلاحه و منه هذه الریح الهابة فالریح تروح عن الاجسام و تزجی السحاب من موضع الی موضع لیعم نفعه حتی یستكثف فیمطر و تفضه حتی یستخف فیتفشی و تلقح الشجر و تسیر السفن و ترخی الاطعمة و تبرد الماء و تشب النار و تجفف الاشیاء الندیة و بالجملة انها تحی كل ما فی الارض فلولا الریح لذوی النبات و لمات الحیوان و حمت الاشیاء و فسدت.

فكر یا مفضل فیما خلق الله عزوجل علیه هذه الجواهر الاربعة لیتسع ما یحتاج الیه منها فمن ذلك سعة هذه الارض و امتدادها فلولا ذلك كیف كانت تتسع لمساكن الناس و مزارعهم و مراعیهم و منابت اخشابهم و احطابهم و العقاقیر العظیمة و المعادن الجسیم غناؤها و لعل من ینكر هذه الفلوات الخاویة و القفار الموحشة فیقول ما المنفعة فیها فهی مأوی هذه الوحوش و محالها و مراعیها ثم فیها بعد تنفس و مضطرب للناس اذا احتاجوا الی الاستبدال باوطانهم فكم بیداء و كم فدفد حالت قصورا و جنانا بانتقال الناس الیها و حلولهم فیها و لولا سعة الارض و فسحتها لكان الناس كمن هو فی حصار ضیق لا یجد مندوحه عن وطنه اذا أحزنه امر یضطره الی الانتقال عنه. ثم فكر فی خلق هذه الارض علی ما هی علیه حین خلقت راتبة راكنة فتكون موطنا مستقرا للاشیاء فیتمكن الناس من السعی علیها فی مآربهم و الجلوس علیها لراحتهم و النوم لهدوءهم و الاتقان لاعمالهم فأنها لو كانت رجراجه متكفئة لم یكونوا یستطیعون ان یتقنوا البناء و النجارة و الصناعة و ما اشبه ذلك بل كانوا لا یتهنون بالعیش و الارض ترتج من تحتهم و اعتبر ذلك بما یصیب الناس حین الزلازل علی قلة مكثها حتی یصیروا الی ترك منازلهم و الهرب عنها فان قال قائل فلم صارت هذه الارض تزلزل قیل له أن الزلزلة و ما اشبهها موعظة و ترهیب یرهب بها الناس لیرعووا و ینزعوا عن المعاصی و كذلك ما ینزل بهم من البلاء فی ابدانهم و اموالهم یجری فی التدبیر علی ما فیه صلاحهم و استقامتهم و یدخر لهم ان صلحوا من الثواب و العوض فی الاخرة مالا یعدله شی ء من امور الدنیا، و ربما عجل ذلك فی الدنیا اذا كان ذلك فی الدنیا صلاحا للعامه مه و الخاصه، ثم ان الارض فی طباعها الذی طبعها الله علیه باردة یابسه و كذلك الحجارة و انما الفرق بینها و بین الحجارة فضل یبس فی الحجارة، افرأیت لوان الیبس افراط علی الارض قلیلا حتی تكون حجرا صلدا كانت تنبت هذا النبات الذی به حیاة الحیوان و كان یمكن بها حرث او بناء افلا تری كیف نقصت من یبس الحجارة و جعلت علی ما هی علیه من اللین و الرخاوة لتتهیأ للاعتماد و من



[ صفحه 348]



تدبیر الحكیم جل و علا فی خلقة الارض ان مهب الشمال ارفع من مهب الجنوب فلم جعل الله عزوجل كذلك الا لتنحدر المیاه علی وجه الارض فتسقیها و ترویها ثم نفیض اخر ذلك الی البحر فكما یرفع احد جانبی السطح و یحفظ الآخر لینحدر الماء عنه و لا یقوم علیه كذلك جعل مهب الشمال ارفع من مهب الجنوب لهذه العلة بعینها و لولا ذلك لبقی الماء متحیرا علی وجه الارض فكان یمنع الناس من اعمالها و یقطع الطرق و المسالك ثم الماء لولا كثرته و تدفقه فی العیون و الادویة و الانهار لضاق عما یحتاج الیه الناس لشربهم و شرب انعامهم و مواشیهم و سقی زروعهم و اشجارهم و اصناف غلاتهم و شرب ما یرده من الوحوش و الطیر و السباع و تتقلب فیه الحیتان و دواب الماء و فیه منافع اخر انت بها عارف و عن عظیم موقعها غافل، فانه سوی الامر الجلیل المعروف من عظیم غنائه فی احیاء جمیع ما علی الارض من الحیوان و النبات یمزج الاشربة فتلذ و تطیب لشاربها و به تنظف الابدان و الامتعة من الدرن الذی یغشاها و به یبل التراب فیصلح للاعمال و به یكف عادیة النار اذا اضطرمت و اشرف الناس علی المكروه و به یستحم المتعب الكال فیجد الراحة من اوصا به الی اشباه هذا من المآرب التی تعرف عظم موقعها فی وقت الحاجة الیها فان شككت فی منفعة هذا الماء الكثیر المتراكم فی البحا و قلت ما الارب فیه فاعلم انه مكتنف و مضطرب ما لا یحصی من اصناف السمك و دواب البحر و معدن اللؤلؤ و الیاقوت و العنبر و اصناف شتی تستخرج من البحر و فی سواحله منابت العود الیلنجوج و ضروب من الطیب و العقاقیر ثم هو بعد مركب للناس و محمل لهذه التجارات التی تجلب من البلدان البعیدة كمثل ما یجلب من الصین الی العراق و من العراق الی الصین فان هذه التجارات لولم یكن لها محمل الاعلی الظهر لبارت و بقیت فی بلدانها و ایدی اهلها لان اجر حملها یجاوز اثمانها فلا یتعرض احد لحملها و كان یجتمع فی ذلك امر ان احدهما فقد اشیاء كثیرة تعظم الحاجة الیها و الآخر انقطاع معاش من یحملها و یتعیش بفضلها و هكذا الهواء لولا كثرته وسعته لاختنق هذا الانام من الدخان و البخار الذی یتحیر فیه و یعجز عما یحول الی السحاب و الضباب اولا اولا فقد تقدم من صفته ما فیه كفایة و النار ایضا كذلك فانها لو كانت مبثوثة كالنسیم و الماء كانت تحرق العالم و ما فیه و لما لم یكن بدمن ظهورها فی الاحایین لغنائها فی كثیر من المصالح جعلت كالمخزونة فی الاجسام فتلتمس عند الحاجة الیها و تمسك بالمادة و الحطب ما احتیج الی بقائها لئلا تخبو فلا هی تمسك بالمادة و الحطب فتعظم المؤونة فی ذلك و لا هی تظهر مبثوثة فتحرق كل



[ صفحه 349]



ما هی فیه بل هی علی تهیأة و تقدیر اجتمع فیها الاستمتاع بمنافعها و السلامة من ضررها ثم فیها خلة اخری و هی انها مما خص بها الانسان دون جمیع الحیوان لماله فیها من المصلحة فانه لو فقد النار لعظم ما یدخل علیه من الضرر فی معاشه فاما البهائم فلا تستعمل النار و لا تستمتع بها و لما قدر الله عزوجل ان یكون هذا هكذا خلق للانسان كفا و اصابع مهیأة لقدح النار و استعمالها و لم یعط البهائم مثل ذلك لكنها اعینت بالصبر علی الجفاء و الخلل فی المعاش لكیلا ینالها فی فقد النار ما ینال الانسان عند فقدها. و انبئك من منافع النار علی خلقة صغیرة عظیم موقعها و هی هذا المصباح الذی یتخذه الناس فیقضون به حوائجهم ما شاؤا فی لیلهم و لولا هذه الخلة لكان الناس تصرف اعمارهم بمنزلة من فی القبور فمن كان یستطیع ان یكتب او یحفظ او ینسج فی ظلمة اللیل و كیف كان حال من عرض له وجع فی وقت من اوقات اللیل فاحتاج الی ان یعالج ظمادا او سفوفا او شیئا یستشفی به، فاما منافعها فی نضج الاطعمة و دفاع الابدان و تجفف اشیاء و تحلیل اشیاء و اشباه ذلك فاكثر من ان تحصی و اظهر من ان تخفی.

فكر یا مفضل فی الصحو و المطر كیف یتعاقبان علی هذا العالم لما فیه صلاحه ولو دام واحد منهما علیه كان فی ذلك فساده، الا تری ان الامطار اذا توالت عفنت البقول و الخضر و استرخت ابدان الحیوان و خصر الهواء فاحدث ضروبا من الامراض و فسدت الطرق و المسالك و ان الصحو اذا دام جفت الارض و احترق النبات و غیظماء العیون و الاودیة فاضر ذلك بالناس و غلب الیبس علی الهواء فاحدث ضروبا اخری من الامراض فاذا تعاقبا علی العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء و دفع كل واحد منهما عادیة الاخر فصلحت الاشیاء و استقامت، فان قال قائل و لم لا یكون فی شی ء من ذلك مضرة البتة قیل له لیمض و یؤلمه بعض الالم فیرعوی عن المعاصی فكما ان الانسان ذلك الانسان اذا سقم بدنه احتاج الی الادویة المرة البشعة لیقوم طباعه و یصلح ما فسد منه كذلك اذا طغی و اشتد احتاج الی ما یمضه و یؤلمه لیرعوی و یقصر عن مساویه و یثبته علی ما فیه حضه و رشده ولو ان ملكا من الملوك قسم فی اهل مملكته قناطیر من ذهب و فضة الم یكن سیعظم عندهم و یذهب له به الصوت فاین هذا من مطرة رواء یعم به البلاد و یزید فی الغلات اكثر من قناطیر الذهب و الفضة فی اقالیم الارض كلها افلا تری المطرة الواحدة ما اكبر قدرها و اعظم النعمة علی الناس فیها و هم عنها ساهون و ربما عاقت عن احدهم حاجة لا قدر لها فیتذمر و یسخط ایثارا للخسیس قدره علی العظیم نفعه جمیلا محمود العاقبة و قلة معرفة لعظیم الغناء و المنفعة فیها تأمل



[ صفحه 350]



نزوله علی الارض و التدبیر فی ذلك فانه جعل ینحدر علیها من علو لیغشی ما غلظ و ارتفع منها فیرویه ولو كان انما یأتیها من بعض نواحیها لما علا المواضع المشرفة منها و یقل ما زرع فی الارض الا تری ان الذی یزرع سیحا اقل من ذلك فالامطار هی التی تطبق الارض و ربما تزرع هذه البراری الواسعة و سفوح الجبال و ذراها فتغل الغلة الكثیرة و بها یسقط عن الناس فی كثیر من البلدان مؤنة سیاق الماء من موضع الی موضع و ما یجری فی ذلك بینهم من التشاجر و التظالم حتی یستأثر بالماء ذوالعز و القوة و یحرمه الضعفاء ثم انه حین قدر ان ینحدر علی الارض انحدارا جعل ذلك قطرا شبیها بالرش لیغور فی قعر الارض فیرویها ولو كان یسكبه انسكابا كان ینزل علی وجه الارض فلا یغور فیها ثم كان یحطم الزروع القائمة اذا اندفق علیها فصار ینزل نزولا رقیقا فینبت الحب المزروع و یحی الارض و الزرع القائم و فی نزوله ایضا مصالح اخری فانه یلین الابدان و یجلوا كدر الهواء، فیرتفع الوباء الحادث من ذلك و یغسل ما یسقط علی الشجر و الزرع من الداء المسمی بالیرقان الی اشباه هذا من المنافع فان قال قائل او لیس قد یكون منه فی بعض السنین الضرر العظیم الكثیر لشدة ما یقع منه او برد یكون فیه تحطم الغلات و بخورة یحدثها فی الهواء فیولد كثیرا من الامراض فی الابدان و الآفات فی الغلات قیل بلی قد یكون ذلك الفرط لما فیه من صلاح الانسان و كفه عن ركوب المعاصی و التمادی فیها فیكون المنفعة فیما یصلح له من دینه ارجح مما عسی ان یرزأ فی ماله.

انظر یا مفضل الی هذه الجبال المركومة من الطین و الحجارة التی یحسبها الغافلون فضلا لا حاجة الیها و المنافع فیها كثیرة فمن ذلك ان تسقط علیها الثلوج فتبقی فی قلالها لمن یحتاج الیه و یذوب ماذاب منه فتجری منه العیون الغزیرة التی تجتمع منها الانهار العظام و ینبت فیها ضروب من النبات و العقاقیر التی لا ینبت مثلها فی السهل و یكون فیها كهوف و معاقل للوحوش من السباع العادیة و یتخذ منها الحصون و القلاع المنیعة للتحرز من الاعداء و ینحت منها الحجارة للبناء و الارحاء و یوجد فیها معادن لضروب من الجواهر و فیها خلال اخر لا یعرفها الا المقدار لها فی سابق علمه.

فكر یا مفضل فی هذه المعادن و ما یخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجص و الكلس و الجبسین و الزرانیخ و المرتك و التوتیا و الزیبق و النحاس و الرصاص و الفضة و الذهب و الزبرجد و الیاقوت و الزمرد و ضروب الحجارة و كذلك ما یخرج منها من القار



[ صفحه 351]



و المومیا و الكبریت و النفط و غیر ذلك مما یستعمله الناس فی مآربهم فهل یخفی علی ذی عقل ان هذه كلها ذخائر ذخرت للانسان فی هذه الارض لیستخرجها فیستعملها عند الحاجة الیها، ثم قصرت حیلة الناس عما حاولوا من صنعتها علی حرصهم و اجتهادهم فی ذلك فانهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سیظهر و یستفیض فی العالم حتی تكثر الفضة و الذهب و یسقطا عند الناس فلا تكون لهما قیمة و یبطل الانتفاع بهما فی الشراء و البیع و المعلات و لا كان یجبی السلطان الاموال و لا یدخرهما احد للاعقاب و قد اعطی الناس مع هذا صنعة الشبه من النحاس و الزجاج من الرمل و الفضة من الرصاص و الذهب من الفضه و اشباه ذلك مما لا مضرة فیه فانظر كیف اعطوا ارادتهم فی ما لا ضرر فیه و منعوا ذلك فیما كان ضارا لهم لو نالوه و من اوغل فی المعادن انتهی الی واد عظیم یجری منصلتا بماء غزیر لا یدرك غوره و لا حیلة فی عبوره و من ورائه امثال الجبال من الفضة. تفكر الآن فی هذا من تدبیر الخالق الحكیم فانه اراد جل ثناؤه ان یری العباد قدرته وسعة خزائنه لیعلموا انه لو شاء ان یمنحهم كالجبال من الفضة لفعل، لكن لاصلاح لهم فی ذلك لانه لو كان فیكون فیها كما ذكرنا سقوط هذا الجوهر عند الناس و قلة انتفاعهم به و اعتبر ذلك بانه قد یظهر الشی ء الظریف مما یحدثه الناس من الاوانی و الامتعة فمادام عزیزا قلیلا فهو نفیس جلیل آخذ الثمن فاذا فشاو كثر فی ایدی الناس سقط عندهم و خست قیمته و نفاسة الاشیاء من عزتها.

فكر یا مفضل فی هذا النبات و ما فیه من ضروب المآرب فالثمار للغذاء و الاتبان للعلف و الحطب للوقود و الخشب لكل شی ء من انواع النجارة و غیرها و اللحاء و الورق و الاصول و العروق و الصموغ لضروب من المنافع ارأیت لو كنا نجد الثمار التی نغتذی بها مجموعة علی وجه الارض و لم تكن تنبت علی هذه الاغصان الحاملة لها كم كان یدخل علینا من الخلل فی معاشنا و ان كان الغذاء موجودا فان المنافع بالخشب و الحطب و الاتبان و سائر ما عددناه كثیرة عظیم قدرها جلیل موقعها هذا مع ما فی النبات من التلذذ بحسن منظره و نضارته التی لا یعدلها شی ء من مناظر العالم و ملاهیه.

فكر یا مفضل فی هذا الریع الذی جعل فی الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة و اكثر و اقل و كان یجوز للحبة ان تأتی بمثلها فلم صارت تریع هذا الریع الا لیكون فی الغلة متسع لما یرد فی الارض من البذر و ما یتقوت الزراع الی ادراك زرعها المستقبل الا تری ان الملك لو اراد عمارة بلد من البلدان كان السبیل فی ذلك ان یعطی اهله ما یبذرونه



[ صفحه 352]



فی ارضهم و ما یقوتهم الی ادراك زرعهم، فانظر كیف تجد هذا المثال قد تقدم فی تدبیر الحكیم فصار الزرع یریع هذا الریع لیفی بما یحتاج الیه للقوت و الزراعة و كذلك الشجر و النبت و النخل یریع الریع الكثیر فانك تری الاصل الواحد حوله من فراخه امرا عظیما فلم كان كذلك الا لیكون فیه ما یقطعه الناس و یستعملونه فی مآربهم و ما یرد فیغرس فی الارض ولو كان الاصل منه یبقی منفردا لا یفرخ و لا یریع لما امكن ان یقطع منه شی ء لعمل و لا لغرس ثم كان ان اصابته آفة انقطع اصله فلم یكن منه خلف. تأمل نبات هذه الحبوب من العدس و الماش و الباقلا و ما اشبه ذلك فانها تخرج فی اوعیة مثل الخرائط لتصونها و تحجبها من الآفات الی ان تشتد و تستحكم كما قد تكون المشیمة علی الجنین لهذا المعنی بعینه و اما البر و ما اشبهه فانه یخرج مدرجا فی قشور صلاب علی رؤوسها امثال الاسنة من السنبل لیمنع الطیر منه لیتوفر علی الزراع فان قال قائل اولیس قد ینال الطیر من البر و الحبوب قیل له بلی علی هذا قدر الامر فیها لان الطیر خلق من خلق الله تعالی و قد جعل الله تعالی و تبارك له فی ما تخرج الارض حظا و لكن حصنت الحبوب بهذه الحجب لئلا یتمكن الطیر منها كل التمكن فیعبث فیها و یفسد الفساد الفاحش فان الطیر لو صادف الحب بارزا لیس علیه شی ء یحول دونه لأكب علیه حتی ینفسه اصلا فكان یعرض من ذلك ان یبشم الطیر فیموت و یخرج الزراع من زرعه صفرا فجعلت علیه هذه الوقایات لتصونه فینال الطایر منه شیئا یسیرا یتقوت به و یبقی اكثره للانسان فانه اولی به اذكان هو الذی كدح فیه و شقی به و كان الذی یحتاج الیه اكثر مما یحتاج الیه الطیر. تأمل الحكمة فی خلق الشجر و اصناف النبات فانها لما كانت تحتاج الی الغذاء الدائم كحاجة الحیوان و لم یكن لها افواه كأفواه الحیوان و لا حركة تنبعث بها التناول الغذاء جعلت اصولها مركوزة فی الارض لتنزع منها الغذاء فتؤدیه الی الاغصان و ما علیها من الورق الثمر فصارت الارض كالام المربیة لها و صارت اصولها التی هی كالافواه ملتقمة للارض لتنزع منها الغذاء كما ترضع اصناف الحیوان امهاتها الم تر الی عمد الفساطیط و الخیم كیف تمدیا لاطناب من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط و لا تمیل فهكذا تجد النبات كله له عروق منتشرة فی الارض ممتدة الی كل جانب لتمسكه و تقیمه و لولا ذلك كیف كان یثبت هذا النخل الطوال و الدوح العظام فی الریح العاصف؟ فانظر الی حكمة الخلقة كیف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحیلة التی تستعملها الصناع فی ثبات الفساطیط



[ صفحه 353]



و الخیم متقدمة فی خلق الشجر لئن خلق الشجر قبل صنعة الفساطیط و الخیم الا تری عمدها و عیدانها من الشجر فالصناعة مأخوذة من الخلقة.

تأمل یا مفضل خلق الورق فانك تری فی الورقة شبه العروق مبثوتة فیها اجمع فمنها غلاظ ممتدة فی طولها و عرضها و منها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقیقا معجما لو كان مما یصنع بالایدی كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة فی عام كامل و لا حتیج الی الآت و حركة و علاج و كلام فصار یأتی منه فی ایام قلائل من الربیع ما یملأ الجبال و السهل و بقاع الارض كلها بلا حركة و لا كلام الا بالارادة النافذة فی كل شی ء و الامر المطاع و اعرف مع ذلك العلة فی تلك العروق الدقاق فانها جعلت تتخلل الورقة باسرها لتسقیها و توصل الماء الیها بمنزلة العروق المبثوثة فی البدن لتوصل الغذاء الی كل جزء منه و فی الغلاظ منها معنی آخر فانها تمسك الورقة بصلابتها و متانتها لئلا تنهتك و تتمزق فتری الورقة شبیهة بورقة معمولة بالصنعة من خرق قد جعلت فیها عیدان ممدودة فی طولها و عرضها لتتماسك فلا تضطرب فالصناعة تحكی الخلقة فكر فی هذا العجم و النوی و العلة فیه فانه جعل فی جوف الثمرة لیقوم مقام الغرس ان عاق دون الغرس عائق كما یحرز الشی ء النفیس الذی تعظم الحاجة الیه فی مواضع اخر فان حدث علی الذی فی بعض المواضع منه حادث وجد فی موضع آخر ثم هو بعد یمسك بصلابته رخاوة الثمار ورقتها و لولا ذلك لتشدخت و تفسخت و اسرع الیها الفساد و بعضه یؤكل و یستخرج دهنه فیستعمل منه ضروب من المصالح و قد تبین لك موضع الارب فی العجم و النوی. فكر الان فی هذا الذی تجده فوق النواة من الرطبة و فوق العجم من العنبة فما العلة فیه و لماذا یخرج فی هذه الهیأة و قد كان یمكن ان یكون مكان ذلك ما لیس فیه مأكل كمثل ما یكون فی السدر و الدلب و ما اشبه ذلك فلم صار یخرج فوقه هذه المطاعم اللذیذة الا لیستمتع بها الانسان. فكر فی ضروب من التدبیر فی الشجر فانك تراه یموت فی كل سنة موتة فتحتبس الحرارة الغریزیة فی عوده و یتولد فیه مواد الثمار ثم یحی و ینتشر فیأتیك بهذه الفواكه نوعا بعد نوع كما تقدم الیك انواع الاطبخة التی تعالج بالایدی واحدا بعد واحد، فتری الاغصان فی الشجر تتلقاك بثمارها حتی كأنها تناولكها عن ید و تری الریاحین تتلقاك فی افنانها كأنها تجئك بانفسها فلمن هذا التقد الا لمقدر حكیم؟ و ما العلة فیه الا تفكیه الانسان بهذه الثمار و الانوار و العجب من اناس جعلوا مكان الشكر علی النعمة جحود المنعم بها و اعتبر یخلق



[ صفحه 354]



الرمانة و ما تری فیها من اثر العمد و التدبیر فانك تری فیها كامثال التلال من شحم مركوم فی نواحیها و حب مرصوفا صفا كنحو ما ینضد بالایدی و تری الحب مفسوما اقساما و كل قسم منها ملفوفا بلفائف من حجب منسوجة اعجب النسج و الطفه و قشره یضم ذلك كله فمن التدبیر فی هذه الصنعة انه لم یكن یجوز ان یكون حشو الرمانة من الحب وحده و ذلك ان الحب لا یمد بعضه بعضا فجعل ذلك الشحم خلال الحب لیمده بالغذاء الا تری ان اصول الحب مركوزة فی ذلك الشحم ثم لف بتلك اللفائف لتضمه و تمسكه فلا یضطرب، و غشی فوق ذلك بالقشرة المستحصفة لتصونه و تحصنه من الآفات فهذا قلیل من كثیر من وصف الرمانة و فیه اكثر من هذا لمن اراد الاطناب و التذرع فی الكلام و لكن فیما ذكرت لك كفایة فی الدلالة و الاعتبار.

فكر یا مفضل فی حمل الیقطین الضیف مثل هذه الثمار الثقیلة من الدباء و القثاء و البطیخ و ما فی ذلك من التدبیر و الحكمة فانه حین قدران یحمل مثل هذه الثمار جعل نباته منبسطا علی الارض ولو كان ینتصب قائما كما ینتصب الزرع و الشجر لما استطاع ان یحمل مثل هذه الثمار الثقیلة و لتقصف قبل ادراكها و انتهائها الی غایاتها فانظر كیف صار یمتد علی وجه الارض لیلقی علیها ثماره فتحملها عنه فتری الاصل من القرع و البطیخ مفترشا للارض و ثماره مبثوثة علیها و حوالیه كأنه هرة ممتدة و قد اكتنفتها اجراؤها لترضع منها و انظر كیف صارت الاصناف توافی فی الوقت المشاكل لها من حمارة الصیف و وقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح و تشوق الیها ولو كانت توافی فی الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها و اقشعرارا منها مع ما یكون فیها من المضرة للابدان الا تری انه ربما ادراك شی ء من الخیار فی الشتاء فیمتنع الناس من اكله الا الشره الذی لا یمتنع من اكل ما یضره و یسقم معدته.

فكر یا مفضل فی النخل فانه لما صار فیه اناث تحتاج الی التلقیح جعلت فیه ذكورة للقاح من غیر غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحیوان الذی یلقح الاناث لتحمل و هو لا یحمل تأمل خلقة الجذع كیف هو فانك تراه كالمنسوج نسجا من خیوط ممدودة كالسدی و اخری معه معترضة كاللحمة كنحو ما ینسج بالایدی و ذلك لیشتد و یصلب و لا یتقصف من حمل القنوان الثقیلة وهز الریاح العواصف اذا صار نخلة و لیتهیأ للسقوف و الجسور و غیر ذلك مما یتخذ منه اذا صار جذعا و كذلك تری الخشب مثل النسج فانك تری بعضه مداخلا بعضه بعضا طولها و عرضا كتداخل اجزاء اللحم و فیه مع ذلك متانة لیصلح لما



[ صفحه 355]



یتخذ منه من الآلات فانه لوكان مستحصفا كالحجارة لم یمكن ان یستعمل فی السقوف و غیر ذلك مما یستعمل فیه الخشبة كالابواب و الاسرة و التوابیت و ما اشبه ذلك و من جسیم المصالح فی الخشب انه یطفو علی الماء فكل الناس یعرف هذا منه و لیس كلهم یعرف جلالة الامر فیه فلولا هذه الخلة كیف كانت هذه السفن و الاظراف تحمل امثال الجبال من الحمولة و انی كان ینال الناس هذا الرفق و خفة المؤنة فی حمل التجارات من بلد الی بلد و كانت تعظم المؤنة علیهم فی حملها حتی یلقی كثیر مما یحتاج الیه فی بعض البلدان مفقودا اصلا او عسر وجوده. فكر فی هذه العقاقیر و ما خص بها كل واحد منها من العمل فی بعض الادواء فهذا یغور فی المفاصل فیستخرج الفضول الغلیظة مثل الشیطرج و هذا ینزف المرة السوداء مثل الافیتمون و هذا ینفی الریاح مثل السكبینج و هذا یحلل الورام و اشباه هذا من افعالها فمن جعل هذه القوی فیها الامن خلقها للمنفعة و من فطن الناس لها الامن جعل هذا فیها و متی كان یوقف علی هذا منها بالعرض و الاتفاق كما قال القائلون وهب الانسان فطن لهذه الاشیاء بذهنه و لطیف رویته و تجاربه فالبهائم كیف فطنت لها حتی صار بعض السباع یتداوی من جراحه ان اصابته ببعض العقاقیر فیبرأ و بعض الطیر یحتقن من الحصر یصیبه بماء البحر فیسلم و اشباه هذا كثیر و لعلك تشكك فی هذا النبات النابت فی الصحاری و البراری حیث لا انس و لا أنیس فتظن انه فضل لا حاجة الیه و لیس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش و حبه علف للطیر و عوده و افنانه حطب فیستعمله الناس و فیه بعد اشیاء تعالج بها الابدان و اخری تدبغ بها الجلود و اخری تصبغ الامتعة و اشباه هذا من المصالح الست تعلم ان من اخس النبات و احقره هذا البردی و ما اشبهها ففیها مع هذا من ضروب المنافع فقد یتخذ من البردی القراطیس التی یحتاج الیها الملوك و السوقة و الحصر التی یستعملها كل صنف من الناس و یعمل منه الغلف التی یوقی بها الاوانی و یجعل حشوا بین الظروف فی الاسفاط لكیلا تعیب و تنكسروا اشباه هذا من المنافع فاعتبر بما تری من ضروب المآرب فی صغیر الخلق و كبیره و بماله قیمة و ما لا قیمة له و اخس من هذا و احقره الزبل و العذرة التی اجتمعت فیها الخساسة و النجاسة معا و موقعها من الزروع و البقول و الخضرا جمع الموقع الذی لا یعدله شی ء حتی ان كل شی ء من الخضر لا یصلح و لا یزكو الا بالزبل و السماد الذی یستقذره الناس و یكرهون الدنو منه و اعلم انه لیس منزلة الشی ء علی حسب قیمته بل هما قیمتان مختلفتان بسوقین و ربما كان الخسیس فی سوق المكتسب نفیسا فی سوق العلم فلا تستصغر العبرة فی الشی ء



[ صفحه 356]



لصغر قیمته فلو فطنوا طالبوا لكیماه لما فی العذرة لاشتروها بانفس الاثمان و غالوا بها.

قال المفضل و حان وقت الزوال فقام مولای الی الصلاة و قال بكر الی غدا انشاء الله تعالی فانصرفت و قد تضاعف سروری بما عرفنیه مبتهجا بما آتانیه حامد الله علی ما منحنیه فبت لیلتی مسرورا.